يوسف الصديق وكيد النساء.
قال الله تعالى ( فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم .)
كثيرا ما وصفت النساء ظلما بالكيد العظيم كون ذلك يبدو واضحا جليا في الآية الكريمة ،لكن لو أطلقنا العنان للأذهان تتدبر في ما قبل الآية وبعدها في سورة يوسف ،فستعود إلى ساحة الواقع ولاريب محمَلة بدواء الإستكانة والراحة بعيدا عن سقم الإتهامات .
يقول تعالى : (" نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ")
فقصة يوسف من أجمل القصص التي من خلال صورها المتتابعة نكتشف بعض الخبايا الإنسانية ، والصراع بين الطيبة والمكر الآدمي .
ولو ابتغينا تبسيطا للأمر المقصود ،فباستطاعتنا أن نقسَم القصة إلى ثلاثة أجزاء :
الجزء د الأول :
كيد إخوة يوسف ( شيطاني )
يقول تعالى ( إذ قال يوسف لأبيه يأبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين . قال
يابني لاتقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيد ا إن الشيطن للإنسن عدو مبين)
فالشيطان قد نزغ بين الإخوة ،وحدث ماكان يخشاه يعقوب عليه السلام "فكاد " الإخوة لإخيهم يوسف ،وأوقعوه في الجب .ولكي يصدَق الوالد مزاعمهم ،جاءوا عشاء يبكون ( دموع التماسيح كما نسميها في عصرنا الحالي ) وأحضروا معهم قميصه مضمخا بدماء زائفة وادَعوا أن الذئب قد أكله .
.يقول تعالى ( وجاءوا أباهم عشاء يبكون .قالوا يأبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وماأنت بؤمن لنا ولو كنا صدقين ).
الجزء الثاني :
كيد زوجة العزيز ( النفس الأمارة بالسوء)
: يقول الله تعالى ( و شهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قدَمن قبل فصدقت وهو من الكاذبين . وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصدقين .فلَما رءا قميصه قدَ من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم .يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ).
وكيد امرأة العزيز تمثل في ادعائها مراودة يوسف عليه السلام لها عن نفسها عند اصطدامها بزوجها عند الباب، لولا الشاهد الذي هو من أهلها قد أثبت عكس ذلك . هذا الشاهد الذي يعتقد بعض المفسرين أنه طفل في المهد ،فالمسألة بديهية و لاتتطلب معجزة مادام الدليل واضح ،ولو حدث ذلك لعمَ الخبر كل أقطار البلاد ،لكن الخبر اجترته بعض نسوة في المدينة.يقول تعالى ( وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا ،إنا لنراها في ضلال مبين ) ،ولو كان صبيا في المهد لصدَقه الجميع بدون دلائل أوحجج يكفي أن ينطق بالحق كما عيسى عليه السلام .فالشاهد من أقاربها ، أعتقد ممن يتصفون بالحكمة ورجاحة العقل وربما كان مرافقا لزوجها في تلك اللحظة غير المتوقعة لمَا فتح الباب دون زوليخة وهي متلبسة بجرمها المشهود ( مطاردة يوسف )،وقد شهد الواقعة وأدلى بدلوه بينهم ونطق بالحق رغم أنه قريب لامرأة العزيز وليس عدوا لها ،وهذا يثبت براءة يوسف عليه السلام . وبعد شهادته القاضية تلك ،ماكان منه إلا أن استدرك الوضع الذي جعل فيه أخته أو ابنة عمَه كاذبة أمام زوجها ،فعمم كيد قريبته على سائر النساء تخفيفا لإحساس الزوج بالتذمر حيال تجلَي الحقيقة – فكل النساء صاحبات كيد عظيم وليست وحدها زوجتك - ،ولتبديد ثورته طلب منها أن تستغفر لذنبها واعتبر تصرفها المشين ذاك ،خطيئة في حقٌه ،وطلب من يوسف عليه السلام أن يعرض عن هذا الإتهام الباطل ولايلقي له اهتماما مواساة له لما لحق به من ضررر نفسي و درء للفضيحة وكلام الناس .ولنفرض أن النساء قد اتَهمن بالكيدالعظيم في خضم أزمنة خلت فيها عاشت المرأة مهانة ،مسلوبة من أي تقدير ،فهذا لايعني أن كل النساء المتواريات خلف حجب المستقبل ،سيتلفعن بها صفة مقيتة ،فالأحكام البشرية بطبيعتها آيلة للتغيير .و ماجاء في القرآن عن كيد النساء ،إنما على لسان آدمي سواء أكان "الشاهدمن أهلها" أو "عزيز مصر" وليس تحذيرا إلهيا للرجال من النساء . يقول تعالى ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا ) وقال تعالى ( ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون) .فالبشر يقولون وفقا لما يكتنف أفئدتهم من اعتقادات ومزاعم وكل مسئول أمام الله عنها .
وإذا كادت امرأة العزيز ليوسف كما فعلها إخوته الذين نزغ الشيطان بينهم وبينه من قبل ،فهذا بسبب النفس الأمارة بالسوء ولقد أقرَت بذلك بعد توبتها ورجوعها إلى الله سبحانه .
يقول تعالى ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم)
وإذا ما قورن بين كيد امرأة العزيز وكيد إخوته ،فإنا سنلحظ أن كيد الإخوة أعظم، نظرا لأن امرأة العزيز كان كيدها اضطراريا لم تخطط له مسبقا وإنما أتى على حين غرَة لماَ صادفت زوجها عند الباب ،مثلها في ذلك مثل الطفل الذي كسَر آنية ولما أقبل عليه من يضربه إتهم أخته الصغيرة أوأحد جيرانه خوفا من العقاب .فلو كانت امرأة العزيز عظيمة الكيد لتنبهت للقميص الذي قدَته من الخلف ولمزقت ثيابها من الأمام وادَعت أنه راودها عن نفسها .أما كيد إخوة يوسف فقد كان بعد تخطيط وتمثيل وادعاء أمام الوالد بالمودة لأخيهم ثم تنفيذ وكذب وبهتان .
ثم أن امرأة العزيز قد وجدت في بيئة وثنية لاتفرق بين حلال وحرام، أما هم فأبناء نبي الله يعقوب يؤمنون بالله ويعرفون مالهم وما عليهم في هذه الحياة الدنيا ،ويعرفون أن الله سبحانه يحرَم الظلم وقتل النفس ،ويوسف من لحمهم ودمهم ،فكيف طاوعتهم أنفسهم للتجني عليه ومحاولة قتله ، ورميه في جبَ في الصحراء بدون طعام ولاحتى قميص ؟ ووالدهم الشيخ الكبير كيف لم يشفقوا عليه ويرحموا ضعفه ،وكيف يفجعونه بموت ولده الحبيب ؟
يقول تعالى : ( قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غفلون .قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إناَ إذا لخاسرون )
أليس في هذا كلَه يبرز كيدهم العظيم .أم أن النساء فقط هنَ الملومات ؟؟؟
الجزء الثالث:
كيد يوسف عليه السلام (من عند الله سبحانه)
يقول تعالى ( فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم )
فبعدما تعرف يوسف على أخيه الشقيق سعى في تدبير خطة لإبقائه معه لأن إخوته لن يسمحوا ليوسف بأخذه وهوبينهم .فدسَ صواع الملك في رحله ونادى المنادي أنكم أيها العير لسارقون .ولما دافعوا عن أنفسهم ،سألهم عن عقاب السارق في ديانتهم ،فقالوا سيكون عبدا للمسروق ،وبالتالي تحققت غايته في امتلاك أخيه.
نفهم من هذا أن كيد الله للمؤمن هو تحقيق نواياه وتيسير أمره بين أعدائه. وكذلك فإن الكيد ليس على الدوام مذموما ما إذا كان فيه مصلحة للمسلم .
يقول تعالى ( إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا )
أما الإنسان الكافر الذي يعتقد أنه صاحب فكر وتدبير ويجهل على المسلمين بلسانه ويده ،فإن كيد الله هو الإنتقام منه بعد أن يركن إلى الأمان .
فالله عزَوجل يمهل ولايهمل .
خلاصة القول ،إن سورة يوسف اشتملت على عدة مراحل ،فيها قد تبين لنا مفهوم الكيد بأنواعه الثلاثة ( فقد يكون من الشيطان ،النفس الأمارة بالسوء أو هو فضل من الله عزوجل على عبده المؤمن بين الأعداء .
-والله أعلم -
بفلم مباركة بشير